عبد الهادي عباس يكتب: د. شفيع الدين السيد.. المُثقف الضدّ!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

عبد الهادي عباس
أؤمن دائمًا أن المثقف الحقيقي هو الذي يسعى إلى التأثير الإيجابي فيمن حوله وتغيير بؤسهم المعرفي إلى انفراجٍ مشدوهٍ بفراشات النور، ونقل عقولهم من ضيق الاهتمام بالواقع المعيشي إلى انفتاحٍ على الكون المعلوماتي؛ وهكذا كانت الرسالة الأبرز للدكتور محمد شفيع الدين السيد (رحمه الله)، والذي غادرنا منذ أيام: (1941م- 2022م)؛ إذ كان حالة معرفية ضدية تسعى حثيثًا بأفئدة الطلاب إلى المعراج المعرفي، سواء في دار العلوم التي قضى يها عمره كله طالبًا وأستاذًا ورئيسًا لقسم النقد الأدبي والأدب المقارن ووكيلًا للكلية؛ أو في مجمع اللغة العربية، إذ كان بركان الخالدين الملتهب بالإنجاز المستمر في لجانه كافة، والمعارض الأبدي للخمول المعرفي الذي ران على المجمع سنينه الأخيرة والمستكين إلى الجُملة الهابطة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، فلم يلن أو يُهادن في رأيه وإن خالفه فيه الكثيرون من المُخاتلين من أولي الإربة في المناصب من جانب أو المخادعين المُمارين في رأيهم من جانب آخر، إذ لم يكن يهتم سوى بتقدم المجمع وتمسكه بتقاليده العريقة وإن عارض بذلك رئيسه المجمع الموقر أو وزير التعليم العالي المُبجّل؛ وهو ما حدا بصنو قلبه الأقرب الدكتور عبد الحميد شيحة أن يقف في قاعة المجمع مفاخرًا بالمنتدى الثقافي ومتقمصًا شخصية الرئيس السادات بعد النصر، قائلًا: "إن هذا المجمع الآن أصبح له درع وسيف"؛ وقد كان المجمعيون يشعرون أن هذه ليست مجرد كلماتٍ قويةٍ في مؤتمرٍ حاشدٍ، وإنما هي كلماتٌ تساوي الحياة في مظانها المتشابكة، فللمجمع درعه ممثلة في الدكتور شيحة بشخصيته الوادعة المستوعبة، وسيفه ممثلًا في الدكتور شفيع بشخصيته الموارة المُلتهبة الرافضة لكلِّ قيحٍ قبيحٍ من القول أو الفعل أو الخروج على التقاليد الجامعية أو المجمعية.
في (ترجمان الأشواق) لمحيي الدين بن عربي وبينما يشرح شعره الصوفي يستشهد بحديث نبوي يقول: "ما ابتُلي أحد من الأنبياء بمثل ما ابتُليتُ"، ويشير ابن عربي بذلك إلى أن الرسول الكريم قد رجع من رؤية الحق- سبحانه- إلى دُنيا الناس ليهديهم سواء السبيل؛ أي أن رؤية الحق لم تكن عند النبي الكريم هي كل الطريق، وإنما إكمال الطريق يتمثل في توجيه الناس إلى الحق؛ أما في كتاب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسىلام) فيذكر عبارة جاءت على لسان أحد الأولياء وهو عبد القدوس الجنجوهي، يقول: "صعد محمد النبي العربي إلى السموات العلا ثم رجع إلى الأرض، قسمًا بربي لو بلغت هذا المقام ما عُدت أبدًا"؛ وفي هذين المثالين فارق كبيرٌ بين النبي الذي يسعي إلى قيادة الأمة والوليّ الذي لا يهتم إلا بنفسه.
ومع الفارق الكبير والشرح الوفير الذي أشار إليه عددٌ كبير من الفلاسفة بين الحالتين، وعلى رأسهم الدكتور زكي نجيب محمود، ولعدم حاجتنا إلى أنبياء جددٍ؛ فإن الواقع يقول إننا نحتاج إلى مثقفين روافض، مثقفين آبقين من التتابع المملّ لكل اجترارٍ معرفي، راغبين في قيادة الأجيال الجديدة إلى موارد علمية مُغايرةٍ تُمايز بين الفن الحقيقي و"الفالصو"، بين الهامش الشائع والمتن الخفيّ، وهذا ما كان يُحاوله أستاذنا الدكتور شفيع (رحمه الله) وزمرة من بقية الصالحين بدار العلوم ومجمع الخالدين.

 

 

 


صفة أخرى كانت غالبةً على شخصية د. شفيع، وهي اتقاد ذاكرته بصورة لافتة للمتحدثين معه، فقد كان يملك مخازن معرفية هائلة من التواريخ والمعلومات التي يكفي أن تضغط على زرها أثناء الحديث معه، فتجد سيلًا دافقًا من التواريخ والأسماء والمواقف بتفاصيلها، بل كان يحكي معي عن تاريخ الجامعة وتاريخ مؤسسة أخبار اليوم بدقة متناهية يحسده عليها العمّ (جوجل) نفسه، خاصة عندما يُبهرني بعناوين مقالات لمصطفى أمين أو التابعي أو موسى صبري؛ أو عناوين العمارات التي كانوا يقطنونها وفي أي الأحياء، بل والأماكن التي انتقلوا إليها.

 


لقد جافتني الرغبة منذ سنوات في كتابة مقالات الرثاء فلم أعد أباشرها، كما أنني أومن بأن أهل العلم باقون خالدون ما بقي علمهم مبثوثًا في تلاميذهم؛ بعيدًا عن أولئك الصنف من الجامعيين الآن الذين ينشغلون "بالمكايدات" والدسائس وكأننا في العصور الوسطى، أو أولئك الذين ينشغلون "بأزمة المكاتب" دون انتباهٍ إلى المنتج المعرفي "المأزوم الفعلي" ومدى تأثيرهم في الطلاب.. إن البقية الباقية من وجهاء الجامعة المصرية العريقة تتفلت من بين أيدي الوطن، فهل نعمل على إنتاج أجيالٍ أخرى بالكفاءة نفسها تسعى إلى حمل رايتنا المعرفية عربيا وعالميا.. أرجو هذا!